
فيما تقتربُ مواسمُ الحجِ والعمرة، وتبدأُ العائلاتُ المصريةُ تجهيزَ أوراقِها وأموالِها للحاقِ بركبِ الروحانياتِ المقدسة، تطلُّ من جديدٍ ظاهرةُ “مافيا الحج والعمرة”، تلك الكياناتُ الوهميةُ التي تتغذى على أحلامِ المواطنين، وتنهشُ مدخراتِهم، لتتركهم في النهايةِ فريسةً للخذلانِ والنصبِ وتدميرِ الأمل.
العامُ الماضي لم يكن استثناءً، بل شهدَ انفجارًا في أعدادِ الضحايا، الذين وقعوا في شِباكِ شركاتٍ غير مرخصةٍ تبيعُ الأوهامَ تحت لافتاتٍ براقةٍ وشعاراتٍ دينية، قبل أن تختفي مع أولِ دفعةِ تحويلٍ بنكي أو تسليمٍ نقدي. في بعضِ الحالات، تم تسليمُ جوازاتِ السفر لتلك الكياناتِ، التي استغلتها في أنشطةٍ مشبوهةٍ، تاركةً المواطنين في دوامةٍ قانونيةٍ وأمنيةٍ مريرة.
هذه الكارثةُ دفعت الدولةَ للتحركِ بقوةٍ هذا العام. حيثُ أعلنت وزارةُ السياحة والآثار، بالتنسيقِ مع وزارةِ الداخلية، عن تشكيلِ “وحدةٍ مركزيةٍ لمكافحةِ الكياناتِ السياحيةِ الوهمية”، مهمتُها تتبعُ الشركاتِ غير المرخصة، ورصدُ تحركاتِها الرقميةِ والميدانية، ومداهمةُ مقارِها، والتحقيقُ مع مسؤوليها، مع إطلاقِ حملاتِ توعيةٍ موسعةٍ في القرى والنجوع والمراكز.
الوحدةُ الجديدةُ تعملُ بمنهجيةٍ استخباراتيةٍ متقدمة، تجمعُ بين الرصدِ الإلكتروني وتحليلِ البياناتِ وبلاغاتِ المواطنين، وتنسقُ مع النيابةِ العامةِ لإحالةِ المخالفين إلى المحاكمةِ الجنائيةِ الفورية. كما جرى التنسيقُ مع البنوكِ لوقفِ التحويلاتِ المشبوهة، ومع شركاتِ الاتصالاتِ لتعقبِ الخطوطِ المستخدمة في النصب.
في السياقِ نفسه، أكدت اللجنةُ العليا للحج والعمرة أن أي مواطنٍ لن يُسمح له بالسفرِ عبر أي شركةٍ لم تحصل على التراخيصِ المعتمدة من الوزارة، ولن تُقبل أي أوراقٍ أو تأشيراتٍ صادرةٍ عن كياناتٍ مشبوهة، حتى لو كانت تحملُ شعاراتٍ رسميةً مزيفة. وتم إطلاقُ تطبيقٍ إلكتروني موحدٍ يتيحُ للمواطنين التحققَ من الشركاتِ المعتمدة، وحجزَ الرحلاتِ بطريقةٍ آمنة.
التحركُ لم يتوقف عند الإجراءاتِ الأمنيةِ والتنظيمية، بل امتد إلى حملاتِ توعيةٍ إعلاميةٍ ضخمة، شملت المساجدَ والكنائسَ ومراكزَ الشبابِ والجمعياتِ الأهلية، لتحذيرِ المواطنين من الانسياقِ خلفَ العروضِ الخادعةِ والتعاملِ مع غيرِ المرخصين. وتم إطلاقُ خطٍّ ساخنٍ لتلقي البلاغاتِ والتفاعلِ الفوري مع أي محاولةِ نصب.
السؤالُ الأهم الآن: هل تنجحُ هذه التحركاتُ في إغلاقِ ملف “مافيا الحج والعمرة” بشكلٍ نهائي؟ المؤشراتُ الأوليةُ تشير إلى تراجعٍ ملحوظٍ في أعدادِ الشركاتِ الوهميةِ التي تم رصدُها هذا العام، وسرعةِ تدخلِ الأجهزةِ المعنية، ما يبعثُ برسالةٍ حاسمةٍ: لا مكانَ لتجارِ الوهمِ في موسمٍ يفترضُ أن يكونَ موسمَ تطهيرٍ للنفوس، لا استنزافٍ للجيوب.
ومع كلِ هذا الجهدِ الرسمي، يبقى الوعيُ الشعبيُ هو خطُ الدفاعِ الأول، فالمواطنُ الواعيُ المتحققُ من مصادرِ حجزِه، هو الذي يقطعُ الطريقَ على هذه المافيا، ويضمنُ أن تكونَ رحلتُه إلى البيتِ الحرامِ رحلةَ إيمانٍ لا خديعة.