
في ظل تزايد مشاجرات الشوارع وجرائم العنف التي باتت مشهداً يومياً في العديد من المناطق، أصبحنا أمام ظاهرة خطيرة لا تهدد فقط أمن الأفراد بل تهدد كيان المجتمع بأسره.وأخطر ما تخلفه تلك المشاجرات ليس فقط الخسائر النفسية أو المادية، بل الإصابات الجسيمة التي تصل في كثير من الحالات إلى ما يسمى في القانون بـ”العاهة المستديمة”.
العاهة المستديمة ليست مجرد مصطلح قانوني، بل عنوان لحياة تغيرت إلى الأبد.فهي تعني ببساطة أن المجني عليه أصبح يعاني من ضرر دائم لا يمكن علاجه أو إصلاحه.ووفق المادة 240 من قانون العقوبات المصري، تُعرف العاهة المستديمة بأنها كل إصابة تؤدي إلى فقد أو إتلاف عضو من أعضاء الجسم أو تعطيله عن العمل بشكل كلي أو جزئي بصفة دائمة.
الأمثلة كثيرة: بتر اليد أو القدم، كسر خاطئ لم يُعالج وانتهى بإعاقة، فقدان البصر في إحدى العينين، تشوه دائم في الوجه أو الرأس، تهتك في الأعصاب يؤدي إلى شلل، أو تلف بالكلى أو الكبد يعيق أداءها مدى الحياة.كل هذه تدخل ضمن نطاق العاهة المستديمة إذا ثبت أنها غير قابلة للشفاء.
ولا يُعتمد في ذلك على أقوال المجني عليه فقط، بل يُحال الأمر إلى الطب الشرعي الذي يصدر تقريراً تفصيلياً يحدد طبيعة الإصابة، نسبتها، تأثيرها على الحياة اليومية، وهل تُعد عاهة مستديمة أم لا.هذا التقرير هو الوثيقة الفاصلة التي يبني عليها القضاء حكمه.
العقوبة؟ لا تساهل.إذا ثبت أن الجاني تسبب في عاهة مستديمة لشخص أثناء مشاجرة أو اعتداء، يُعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات طبقاً لنص المادة 240.وإذا اقترنت الجريمة بظروف مشددة كاستخدام سلاح أو سبق الإصرار أو التربص، ترتفع العقوبة إلى السجن المشدد، بل قد تصل إلى المؤبد إذا وُجدت نية القتل أو إزهاق الروح.
الكارثة أن كثيراً من هذه المشاجرات تبدأ من أسباب تافهة: خلاف على ركن سيارة، كلمة استفزاز، نظرة عابرة، لتتحول في ثوانٍ إلى جريمة تنتهي بإصابة أحدهم بعاهة لا علاج لها وسجن الآخر سنوات طويلة، ويخسر الطرفان مستقبلهم.
القانون لا يحمي من فقد أعصابه.بل يحاسب.اليد التي تمتد بالضرب قد تُقيد بالحديد، والتهور في لحظة قد يصبح وصمة لا تزول.والجهل بالقانون لا يُعفي من العقوبة.
نحتاج اليوم إلى وعي قانوني قبل أي حملة أمنية.أن يعرف كل شخص أن الضرب ليس شجاعة، وأن المشاجرة ليست وسيلة لحفظ الكرامة.الكرامة تُصان بالقانون، لا بالدم.
في النهاية، العاهة المستديمة ليست إصابة فقط، بل جريمة كاملة.جريمة لا تُغتفر لأنها تسرق من إنسان جزءاً من حياته، وتسرق من آخر مستقبله خلف القضبان.