
قال خبراء اقتصاديون، تحدثوا إلى “فيتو”: إن الفائض الأولى المُعلن فى موازنة 2024 /2025 قد لا يُعبّر بدقة عن القوة المالية للدولة، إذ إن جزءًا كبيرًا منه يعتمد على موارد غير مستدامة، على رأسها عائدات بيع الأصول العامة، مشددين على أن الفائض الأولى يُعد أحد المؤشرات المهمة فى تقييم الاستدامة المالية، كما شرحوا كيف يكون مردود الإنجاز المالى على المصريين، بعيدًا عن التصريحات الإعلامية والاستهلاكية التى تخاصم الواقع أحيانًا، بل والعقل أيضًا.
الفائض الأولى أحد المؤشرات المهمة
الخبير الاقتصادى الدكتور مدحت نافع، يؤكد أن الفائض الأولى يُعد أحد المؤشرات المهمة فى تقييم الاستدامة المالية، لكنه لا يكفى بمفرده للحكم على سلامة الأوضاع المالية العامة أو انعكاسها على جودة حياة المواطنين، ويُعرّف هذا المؤشر ببساطة على أنه الفارق بين الإيرادات العامة والنفقات قبل احتساب فوائد الدين، وهو ما يفسر كيف يمكن للحكومة أن تعلن عن “فائض أولى غير مسبوق”، فى وقت يبقى فيه العجز الكلى كبيرًا نتيجة تضخم تكلفة خدمة الدين، ما يُبقى الضغوط المعيشية قائمة.
الفائض الأولى المُعلن فى موازنة 2024 / 2025
وأوضح د. مدحت نافع أن الفائض الأولى المُعلن فى موازنة 2024 / 2025، والمقدَّر بنحو 629 مليار جنيه (أى حوالى 3.6% من الناتج المحلى الإجمالي)، هو رقم حقيقى من حيث الحسابات النقدية، حيث يمثل الفرق بين الإيرادات والمصروفات الجارية قبل احتساب الفوائد، لكنه يلفت إلى أن هذه “الإيجابية” لا تعكس الصورة الكاملة، فوفق تقديرات الموازنة، تبتلع بنود خدمة الدين – من فوائد وأقساط مستحقة – الجزء الأكبر من الإنفاق العام، لتصل إلى ما بين 47% و62% من الاستخدامات، مع ارتفاع استثنائى فى بند الفوائد، وعليه، تصبح “المعادلة” واضحة: فائض أولى على الورق، لكنه يتحول إلى عجز كلى كبير بمجرد احتساب فوائد الدين.
“نافع” يرصد عدة أسباب رئيسية لعدم انعكاس ما يُوصف بـ”الإنجاز المالي” على حياة الناس كالتالي:
قصور طبيعة المؤشر: الفائض الأولى لا يأخذ فى اعتباره عبء الدين ولا تكلفة خدمته، ولا يعكس الأوضاع المعيشية مثل الأسعار، البطالة، وتآكل الأجور، ما يسمح بتحسن المؤشر على الورق رغم تدهور الظروف اليومية بفعل التضخم وسعر الصرف.
تركيبة الإنفاق العام: النسبة الأكبر من الزيادة الحقيقية فى الإنفاق (بعد خصم التضخم) تذهب نحو سداد الفوائد، بينما تتراجع القيمة الحقيقية للإنفاق على بنود تمس المواطن مباشرة، مثل الأجور، الاستثمارات العامة، والدعم الاجتماعي، وتشير تحليلات مستقلة إلى أن نمو الفوائد تفوق على بقية البنود، ما يؤدى إلى مزاحمة الإنفاق الاجتماعى والاستثماري.
صندوق النقد الدولى ومصر
استمرار دوامة الاقتراض: طالما أن الفوائد تتجاوز الفائض الأولي، يظل العجز الكلى قائمًا، وتبقى الحاجة إلى تمويل جديد مرتفعة، مع تجديد آجال ديون ضخمة، وتزايد مخاطر أسعار الفائدة وسعر الصرف، وهو ما يعيد الضغط على الأسعار والموارد المحلية.
يشير نافع إلى أن صندوق النقد الدولى حدّد لمصر هدفًا بتحقيق فائض أولى مرتفع (3.5% من الناتج فى 2024 /2025) ضمن خطة لضبط الدين على المدى المتوسط، ومع ذلك، تُظهر تقارير الصندوق أن التقدّم فى تنفيذ هذا المسار لا يزال متفاوتًا، وسط استمرار هيمنة الدولة على الاقتصاد واحتياجات تمويلية مرتفعة، ما يجعل الفائض الأولى شرطًا لازمًا لكنه غير كافٍ لتحقيق استدامة حقيقية.
ويوضح نافع أن الفائض الأولى قد يكون “حقيقيًا” من الناحية المحاسبية، بشرط الالتزام بحسابات الموازنة النقدية، أى إيرادات تفوق المصروفات الجارية قبل الفوائد، لكن الأثر الاقتصادى يظل محدودًا عندما تكون الفوائد أكبر من الفائض بهامش كبير، ما يؤدى إلى تآكل مكاسبه وظهور عجز كلى فعلي، وبالتالى غياب أى انعكاس ملموس على الاستثمار أو الخدمات العامة، ويعلق قائلًا: “عندها يشعر المواطن بالتناقض بين ورق يبتسم، وواقع يضيق”.
استراتيجية أكثر فاعلية
ويشدد نافع على أهمية اتباع استراتيجية أكثر فاعلية لتحويل المؤشرات المالية إلى تحسُّن حقيقى فى حياة المواطنين، من أبرز ملامحها: خفض تكلفة خدمة الدين ديناميكيًا من خلال إطالة آجال الاستحقاق، وتثبيت أسعار الفائدة تدريجيًا، وبناء مصداقية أكبر فى مواجهة التضخم، تحقيق ضبط مالى نوعى لا كمى فقط، عبر توسيع القاعدة الضريبية بطريقة مستدامة، وترشيد الإنفاق بما يحمى الاستثمار العام والإنفاق الاجتماعى بدلًا من التضحية بهما لصالح الفوائد.
ويختتم نافع حديثه بأن الفائض الأولى ليس “وهمًا” فى حد ذاته، لكنه قد يصبح مضللًا إذا استُخدم كعنوان وحيد للنجاح، فى وقت لا تزال فيه فوائد الدين تبتلع ثمرة أى ضبط مالي، وتستمر الضغوط على الأسعار والدخول، فالمؤشر لا يُقرأ منفصلًا، بل يجب النظر إلى اتجاه العجز الكلي، وكُلفة خدمة الدين، وجودة الإنفاق، وقدرة الاقتصاد على خلق نموٍّ حقيقي، وعندما تتكامل هذه العناصر، حينها فقط سيتحوّل الفائض من رقم على ورق إلى واقعٍ يشعر به المواطن.
تضليل حكومي متعمد
من جانبه، يرى الدكتور وائل النحاس، الخبير الاقتصادي، أن الفائض الأولي المُعلن فى موازنة 2024 /2025 قد لا يُعبّر بدقة عن القوة المالية للدولة، إذ إن جزءًا كبيرًا منه يعتمد على موارد غير مستدامة، على رأسها عائدات بيع الأصول العامة.
ويستند النحاس فى تحليله إلى بيانات وزارة المالية وصندوق النقد الدولي، التى تُظهر أن الحكومة تهدف لتحقيق فائض أولى بنسبة 3.5% من الناتج المحلى الإجمالي، مع إضافة نحو 1% أخرى عبر عائدات بيع أصول، ليصل الإجمالى إلى 4.5%، لكنه يُشير إلى أن هذا التكوين يخفى وراءه حقيقة دقيقة، فصفقات مثل “رأس الحكمة” – التى تشكّل وحدها حوالى 3.7% من الناتج المحلى – تُسجَّل كعائد مؤقت، رغم أنها ليست ناتجة عن نشاط اقتصادى مستدام أو تحسن حقيقى فى الإيرادات الضريبية.
خدمة الدين بالكامل
يؤكد النحاس أن الفائض الأولى كما يُحسب حاليًا يستثنى خدمة الدين بالكامل – أى الأقساط والفوائد – وهو ما قد يُضلل فى فهم الوضع الحقيقي، فعلى سبيل المثال، فى عام 2024 فقط، دفعت الدولة نحو 42.3 مليار دولار لخدمة الدين، وهو أعلى مبلغ يُسدد فى عام واحد، بينما بلغ الدين الخارجى حوالى 165 مليار دولار.
ويقول النحاس: “الحديث عن فائض أولى دون احتساب خدمة الدين قد يعطى انطباعًا غير دقيق بأن المالية العامة فى وضع مريح، بينما الحقيقة أن الدولة تُواجه ضغوطًا غير مسبوقة بسبب التزامات الديون”.
ووفق أحدث التقديرات، بلغ إجمالى الدين العام نحو 87% من الناتج المحلى فى 2025، وهى نسبة مرتفعة تضغط على الموازنة من جانب، دون أن تُترجم إلى تحسن فعلى فى حياة المواطنين من الجانب الآخر.
تأثير الأرقام الرسمية
يشير الدكتور وائل النحاس إلى أن تأثير الأرقام الرسمية لا يصل إلى المواطن، وذلك لعدة أسباب متراكمة كالتالي: رفع تدريجى للدعم عن السلع والخدمات الأساسية، مما زاد الأعباء المباشرة على الأسر، وارتفاع أسعار الفائدة والعملة المحلية، ما ضاعف تكلفة المعيشة، ومعدلات تضخم مرتفعة تفجرت بعد تحرير سعر الصرف، انعكست سلبًا على القدرة الشرائية للأجور، ورغم أن الدولة تعلن من حين لآخر عن “إنجازات اقتصادية”، فإن هذه التحسينات – بحسب النحاس – لا تُترجم إلى واقع يشعر به المواطن.
ويوضح النحاس أن سياسات الإصلاح الاقتصادى اعتمدت على تقليص أو إلغاء الدعم تدريجيًا عن الطاقة والسلع الأساسية، بزعم ترشيد الإنفاق العام وتوجيه الموارد بشكل أفضل، وقد أيد صندوق النقد هذه الرؤية، مؤكدًا أن الدعم غير الموجه يعد استخدامًا غير فعّال للمال العام، داعيًا لتوجيهه إلى الفئات الأكثر احتياجًا بشكل مباشر.
رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50%
ورغم أن الحكومة تبنّت حزم حماية اجتماعية، شملت: رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50%، زيادة المعاشات بنسبة 15%، توسيع برنامج “تكافل وكرامة”، رفع حد الإعفاء الضريبى الشخصي، إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتعويض أثر ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة، وفق ما يؤكده الواقع اليومى للمواطنين.
ويتساءل النحاس عن أسباب إعلان رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، أن مصر قد “تجاوزت الأزمة الاقتصادية”، رغم استمرار عبء الدين وارتفاع تكلفة المعيشة، وتأجيل الحكومة للمراجعة الخامسة لبرنامج الإصلاح مع صندوق النقد.
ويُرجع ذلك إلى بعض التحسّن فى المؤشرات الكلية، مثل: انخفاض التضخم من ذروته التى بلغت 38% إلى مستويات أقل، وتحسن الاحتياطى النقدي، وتدفّق دعم خارجى بمليارات الدولارات، خصوصًا من شركاء إقليميين، لكن فى الوقت ذاته، الدين العام لا يزال عند مستويات ضاغطة، وستواصل مصر سداد فوائد وأقساط بمعدلات مرتفعة لسنوات قادمة، وهو ما يفرض – بحسب النحاس – ضرورة التعامل بحذر مع “الإنجازات الورقية” وعدم فصلها عن واقع الناس.
وكشف الدكتور وائل النحاس أن الحكومة المصرية طلبت رسميًا دمج المراجعتين الخامسة والسادسة ضمن برنامجها مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يعنى عمليًا تأجيل صرف الشريحة الجديدة من القرض إلى شهر ديسمبر المقبل، بدلًا من النصف الأول من عام 2025.
تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة
وفسّر النحاس هذا التوجه بأنه يأتى فى إطار محاولة الحكومة كسب مزيد من الوقت لتسريع تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، وفى الوقت نفسه تأجيل اتخاذ قرارات ذات تأثير مباشر على المواطنين، وعلى رأسها رفع أسعار شرائح الكهرباء والغاز والمياه، والمقرّر تطبيقها فى أكتوبر المقبل.
واعتبر أن الحكومة تسعى لتخفيف وطأة تلك الإجراءات على الشارع فى ظل الأوضاع المعيشية الضاغطة.
وأوضح النحاس أن الاقتصاد المصرى يمرّ بتحديات معقّدة، أبرزها ارتفاع كلفة خدمة الدين، وتآكل قيمة الجنيه، واستمرار معدلات التضخم المرتفعة، مما يجعل الالتزام بشروط صندوق النقد – خصوصًا المتعلقة بتحرير سعر الصرف وترك الجنيه لقوى السوق – أكثر صعوبة فى ظل تصاعد الاعتراضات الشعبية.
دمج المراجعتين
وأشار إلى أن دمج المراجعتين قد يتيح للحكومة هامشًا أوسع للمناورة، إذ يسمح بتنفيذ الإصلاحات بشكل تدريجى مع تقليل الآثار السلبية الفورية على الاستقرار الاجتماعي، فى وقت يشهد فيه الشارع حالة من القلق إزاء السياسات الاقتصادية المتبعة.
ونوّه النحاس إلى أن قرار الدمج ليس فقط إجراءً فنّيًا، بل يمثل خطوة استراتيجية تسعى من خلالها الحكومة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الإصلاحية، وامتصاص صدمة التحولات الاقتصادية بشكل أكثر تدرّجًا، وأضاف أن هذه الخطوة قد تحسّن العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي، وتعزز ثقة الدائنين والشركاء الدوليين، بما يفتح الباب أمام مزيد من التمويل الخارجى وفرص دعم إضافى خلال المرحلة المقبلة.
واختتم النحاس بالإشارة إلى أن دمج المراجعتين الخامسة والسادسة يجب أن يُفهم فى سياق دقيق: فهو محاولة لخلق توازن بين الوفاء بالالتزامات الدولية وتجنّب تصعيد الضغوط على المواطنين، لكنه شدد على أن نجاح هذه الخطوة سيعتمد بالأساس على كيفية إدارة الحكومة للإصلاحات، ومدى قدرتها على استعادة ثقة المواطن، وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.