
بين جدران صامتة وأبواب مغلقة منذ عقود، اشتعلت واحدة من أعقد المعارك الاجتماعية والاقتصادية في مصر: قضية الإيجار القديم. قانون ظلت أحكامه حاضرة لعقود دون مراجعة جذرية، لتولد أزمة تتخطى مجرد نزاع بين مالك ومستأجر، وتتحول إلى ملف اجتماعي وسياسي ساخن يهدد استقرار آلاف الأسر ويثير تساؤلات دستورية حول الحق في السكن والملكية.
الملاك: أبناءنا مشردون.. ونعيش على “ريع ميت”
“شقة بـ5 جنيه إيجار شهري.. لا تكفي حتى كوباية شاي في كافيه”، بهذه الكلمات عبّر إبراهيم زكي، أحد الملاك المتضررين، عن الواقع القاسي الذي يعيشه ويقول : “ورثتُ عمارة من والدي في وسط البلد.. سبع شقق.. والإجمالي اللي بيجيلي شهريًا أقل من 100 جنيه! مش قادر أصلح السلم ولا أوفر صيانة.. والمستأجر بيأجرها من الباطن بـ5000 جنيه شهريًا!”
ويتابع: “من الظلم إن المستأجر يورّث ابنه الشقة مدى الحياة وأنا ابني مش لاقي شقة يتجوز فيها!”.
هذه الشكاوى تتكرر على ألسنة آلاف الملاك الذين يطالبون بتعديل قانون الإيجار القديم، معتبرين أنه يحرمهم من ملكهم ويجعل الدولة شريكًا في تقييد الحقوق الدستورية.
المستأجرون: لا تتجاهلوا دماء الخلوات وسنوات العمر
على الجانب الآخر، يرد المستأجرون باتهامات لا تقل حدّة. “قانون الإيجار القديم لم يكن منحة.. نحن دفعنا خلوات بمئات الجنيهات وقت كانت الشقة لا تساوي ألف جنيه كاملة!”، هكذا تحدثت نادية فؤاد، مستأجرة منذ 1978، وتُكمل: “اللي بيقول المستأجر مرتاح لازم يفتكر إننا عمرنا ضاع في تجميع خلو الشقة وإصلاحها وتحويلها لمكان آدمى”.
وتطالب نادية، مثل كثيرين، بـ”ردّ الحقوق قبل الحديث عن تعديل القانون”، في إشارة إلى الخلوات المدفوعة دون سند قانوني.
من وجهة نظرهم، فإن أي تعديل دون تعويض عادل أو إعادة تقنين الأوضاع يعد كارثة اجتماعية ستُخرج ملايين الأسر للشارع.
المتخصصون: القانون سيصطدم بالدستور إذا لم يُعدّل.. ولكن المساس بالفئات الفقيرة خطر
في هذا الصدد، يقول الدكتور ياسر حلمي، أستاذ التشريعات بجامعة عين شمس، إن “قانون الإيجار القديم وُضع في ظروف تاريخية استثنائية بعد حروب ومجاعات، لكنه لم يعد مناسبًا للواقع الحالي”. ويضيف: “استمرار الوضع بهذه الصورة يهدد مبدأ المساواة أمام القانون، ويمثل إخلالًا بحرمة الملكية الخاصة، ما يجعله عرضة للطعن الدستوري”.
لكنه يحذر في الوقت نفسه من “الاندفاع نحو الإلغاء الكامل للقانون دون وجود بدائل حقيقية للفقراء ومحدودي الدخل”، مشددًا على ضرورة وجود حزمة تشريعية واقتصادية متكاملة تشمل تعويضات ودعمًا سكنيًا بديلًا.
الأرقام تتكلم:
أكثر من 3 ملايين وحدة سكنية خاضعة لقانون الإيجار القديم.
قرابة 1.8 مليون مالك يعانون من ضعف العائد على أملاكهم.
في بعض المناطق، إيجار الشقة الشهرى لا يتجاوز 3 جنيهات.
في المقابل، تشير تقارير حقوقية إلى أن 70% من المستأجرين القدامى من محدودي أو متوسطي الدخل.
حلول مطروحة بين التشريع والتفاوض
تتجه الحكومة نحو طرح مشروع قانون لتسوية الأزمة تدريجيًا، يتضمن:
تحديد فترة انتقالية لا تقل عن 5 سنوات قبل تطبيق زيادات حقيقية.
وضع شروط لحصر المستحقين الحقيقيين من المستأجرين القدامى.
تعويض الملاك جزئيًا من خلال حوافز ضريبية أو دعم تنموي.
لكن حتى اللحظة، ما زال المشروع في طور المداولة، وسط حالة من الاستقطاب الاجتماعي الحاد بين طرفي الأزمة.
خاتمة: معركة بلا منتصر حتى الآن
قضية الإيجار القديم ليست مجرد قانون ينتظر التعديل، بل تعبير صارخ عن تعقيدات البنية العقارية والاجتماعية في مصر. والمطلوب ليس فقط حل النزاع، بل إعادة صياغة علاقة المصريين بالسكن والملكية على أساس عادل ومستدام.
ومع تصاعد الأصوات من الجانبين، تبقى مسؤولية الدولة هي إيجاد معادلة تحفظ كرامة الإنسان وحقوق الملكية دون أن تضع أحد الطرفين تحت عجلات التحديث السريع.