
لم يكن الحريق الذي اندلع في إحدى قرى الساحل الشمالي خلال حفل “تكنو” صاخب مجرد حادث عرضي، بل هو ترجمة نارية لحالة الانفلات التي تسيطر على هذه الحفلات، والتي باتت تنتشر كالوباء في الجيزة وأكتوبر والقاهرة والمناطق السياحية، تحت غطاء زائف اسمه “الموسيقى والحرية”.
في قلب هذه الحفلات، تُستخدم موسيقى التكنو كأداة رئيسية للسيطرة على الحضور وإغراقهم في حالة من الانفصال الكامل عن الواقع. هذه الموسيقى لا تُعزف عبثًا، بل تُنتج بطريقة تعتمد على ترددات إلكترونية متكررة، ونغمات ثابتة ذات إيقاع سريع ومكرر يُحدث نوعًا من التشويش الذهني، ويؤثر مباشرة على إشارات الدماغ العصبية، وفق ما تؤكده دراسات علم الأعصاب الحديثة.
موسيقى التكنو تؤثر على مراكز الإدراك والوعي، وتؤدي إلى إفراز مفرط لمادة الدوبامين، وهو ما يُشبه تأثير المخدرات تمامًا. ولذا، فإن الجمع بين هذه الموسيقى وحبوب “البلاط” أو المواد المهلوسة يجعل الحضور يدخلون في حالة من الانفصال العقلي والهلاوس السمعية والبصرية، والتي قد تؤدي إلى فقدان السيطرة الكاملة على التصرفات.
حبوب “البلاط” – وهي مادة صناعية تُصنف ضمن أخطر أنواع المخدرات – تُستهلك بشكل كثيف في هذه الحفلات، حيث ترتبط تأثيراتها ارتباطًا وثيقًا مع نوعية الموسيقى المستخدمة. فالمتعاطي يتفاعل مع نغمات التكنو بإفراط، ويدخل في حالة من “الانبساط السام”، التي تتحول لاحقًا إلى نوبات هلع، تشنجات، وقد تصل إلى الانتحار أو الموت المفاجئ.
ليست مجرد حفلات… بل مصانع تفريخ للجنون والانهيار النفسي.
المشهد في حفل الساحل الشمالي كشف المستور: نار تشتعل في المكان، ونيران أخرى تشتعل في عقول الحاضرين. والمصيبة أن هذا النوع من الحفلات بات له جمهور يتنقل من مدينة لأخرى، ويتفاخر بتعاطي المواد الممنوعة كجزء من “تجربة موسيقية متكاملة”.
تُقام هذه الحفلات في أماكن مغلقة أو صحراوية، دون ترخيص، دون رقابة، دون إسعافات أولية، ودون أي مسؤولية. تُضخ فيها أموال طائلة، ويُروج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت عناوين براقة مثل: “حفلة تحت القمر”، “ليلة الروح الحرة”، “رحلة الصوت العميق”.. لكنها في الحقيقة رحلة إلى الهلاك.
لماذا لا يتم الضرب بيد من حديد على من يسمح ويستضيف ويروّج؟ كيف تُقام حفلات تعتمد على ترويج المخدرات والموسيقى المهلكة علنًا؟! كيف تُترك عقول الشباب فريسة سهلة في قبضة مافيا الحفلات والمخدرات؟!
إننا لا نتحدث هنا عن حفل موسيقي بريء، بل عن ظاهرة مرعبة تستحق إعلان حالة طوارئ مجتمعية ضدها. فكل دقيقة تأخير تساوي شابًا ضائعًا، أو جريمة على وشك الحدوث، أو عائلة مكلومة تنتظر مأساة.
نطالب بتجريم حفلات التكنو غير المرخصة فورًا، وإجراء فحوصات للمشاركين فيها، ومصادرة أي مواد مخدرة أو أدوات موسيقية تستخدم في التغييب العقلي. نريد قانونًا واضحًا لا يعرف المجاملة.. وقرارات حاسمة لا تخشى النفوذ.
لأن أرواح شبابنا أهم من أي مكسب.. وأخطر من أي حريق.