
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتشابك فيه الحياة اليومية مع شبكات التواصل، لم يعد الهاتف المحمول مجرد وسيلة اتصال أو أداة للترفيه، بل تحول إلى عينٍ مفتوحة ترصد وتوثّق، ليصبح في يد المواطن سلاحًا لا يقل قوة عن القوانين واللوائح في مواجهة الانفلات والجرائم.
اليوم، مقطع فيديو لا تتجاوز مدته ثوانٍ قد يُسقط شبكة إجرامية، أو يفضح متحرشًا وسط الشارع، أو يوثق واقعة فساد، لتتحرك وزارة الداخلية على الفور وتتعامل بحسم مع كل مشهد يثير الرأي العام. وبات شعار المرحلة واضحًا: “اللي هيغلط هيتصور.. واللي هيتصور هيتحاسب”.
توثيق الجريمة من قلب الحدث
الهواتف الذكية التي يحملها ملايين المواطنين لم تعد تلتقط لحظات شخصية فقط، بل أصبحت تُسجل جرائم في مهدها. في قضية شهيرة، وثّق مواطن بسيارته واقعة تحرش جماعي بفتاة في شارع مزدحم، لتنتشر اللقطات على السوشيال ميديا كالنار في الهشيم، وتتحرك الأجهزة الأمنية في غضون ساعات للقبض على المتهمين.
ومثلها عشرات الفيديوهات التي كشفت عن بلطجية يقطعون الطريق، وسائقين يستهترون بأرواح المارة، ومحتوى مبتذل تم ضبط أصحابه بعد دقائق من انتشاره.
شراكة بين المواطن والداخلية
هذه الظاهرة لم تعد مجرد صدفة، بل باتت شراكة واقعية بين المواطن والداخلية. المواطن يوثق وينشر، والأمن يرصد ويتحرك بسرعة، لتتحقق المعادلة الذهبية: “توثيق + سرعة استجابة = عدالة ناجزة”.
وزارة الداخلية من جانبها طوّرت آليات متابعة دقيقة، فرق متخصصة ترصد ما يتداول عبر المنصات لحظة بلحظة، وتتعامل مع كل واقعة باعتبارها بلاغًا جماعيًا من الرأي العام.
الهاتف.. محكمة الشارع
لم يعد المتهم يواجه القانون فقط، بل يواجه أيضًا عدسة المواطن التي تحوّل الفعل الآثم إلى فضيحة علنية. مشهد الاعتداء أو التحرش أو السرقة صار ينتشر في ثوانٍ، فيُحاصر الجاني من كل اتجاه، ويجد نفسه تحت سيف القانون والمجتمع معًا.
وهنا تكمن القوة الحقيقية: الخوف من الكاميرا أصبح رادعًا يوازي العقوبة القانونية.
خبراء: الفيديوهات تكسر حاجز الصمت
خبراء علم الاجتماع يؤكدون أن تصوير المواطنين للجرائم كسر حاجز الخوف والصمت، فمن كان يخشى الإبلاغ صار يوثق بالصوت والصورة، وهو ما أعطى ثقة للمجتمع بأن العدالة ستحضر ولو بعد دقائق.
ويشير القانونيون إلى أن هذه الفيديوهات تُعد قرائن قوية أمام جهات التحقيق، تدعمها التحريات وتسرّع من إجراءات المحاكمة.
عصر “الكاميرا لا تكذب”
لقد دخلنا مرحلة جديدة من الضبط الاجتماعي، حيث صار المواطن شريكًا في حفظ الأمن، والهاتف أداة ردع بيد الجميع. لا شارع ولا مقهى ولا وسيلة مواصلات خالية من عدسات تراقب وتسجل، والنتيجة واضحة: الجريمة تُفضح قبل أن يكتمل مشهدها.
فمن يتصور أن فعله سيمر في الظلام، عليه أن يدرك أن الظلام لم يعد موجودًا.. فالكاميرا في كل مكان، والقانون حاضر، والمجتمع يرفض الصمت.