
شهر شعبان والصعود إلي الرحمن إنتهى شهر رجب والتمس الناس خير ما فيه ، حيث إنه شهر الله المحرم ، فتوطئت النفوس ، واشرئبت الأعناق ، وطال الانتظار لما بعده من الخير ، وهو شهر شعبان الذي يحمل من عبق الذكريات وجميل النفحات ما كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم توجيه الأمة لحسن استقبال رمضان ، واغتنام أيامه في العمل الصالح ، فكان صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تحري رؤية هلال شعبان ، وأن يحصوا أيامه حتى يتعايشوا مع الخير الذي فيه ، فهو الشهر الذي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة الصيام فيه ، حيث ترفع فيه الأعمال إلى رب العباد ، ومن ثم فهو يحب أن ترفع أعماله وهو صائم .
يأتي شعبان وهو يحمل معه عبق التاريخ ، وعبير الذكريات الطيبة ، وهو فرصة طيبة سنحت لنا لنجدد العهد مع الله بالأوبة والتوبة والعودة مع الله ، ومحاسبة نفوسنا قبل أن نحاسب ، إذ هو شهر الحساب الختامي لأعمال السنة كلها حتى إذا رفعت أعمالنا كنا على علم بتقصيرنا في حق الله الذي فرطنا فيه بما ارتكبنا واقترفنا ، وانغمست نفوسنا في أوحال الدنيا وملذاتها ، ونسينا الصيام الذي هو تطهير لها مما علق بها من شوائب .
إن شعبان من التشعب والتشعب طرق مسلوكة ، ولغات مسموعة ، وحضارة معاشة ، وثقافة واسعة تتفاعل مع هذه الطرق وتلك اللغات والحضارات دون تصادم ودون تقوقع وانعزالية ، فقد كان العرب يتشعبون في هذا الشهر بحثا عن الماء ، فهي شعب متعددة وطرق متنوعة ، ولذلك يتنوع الخير في هذا الشهر الفضيل بما كان فيه من خير عظيم ، وقد أورد الإمام الشوكاني في نيل الأوطار باب في صوم شعبان والأشهر الحرم ، مما يدل على منزلة ومكانة هذا الشهر ، فما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر غيره أكثر منه ، وقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال : قلت : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العباد وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم .
الناس في هذين الوقتين يسارعون في الخيرات ، ويكثرون من الطاعات ، حيث وقع شعبان بين رجب المحرم ورمضان شهر الصيام ، وظنوا أن الطاعة فيه ليست كطاعته فيما فضله من الليالي والأيام والشهور ، فنبه الرسول على خطأ يقع فيه الناس .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يحرص على أن ترفع أعماله إلى ربه ، وهو في عبادة تمثل ربع الإيمان ، إذ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان .
إنه يوجه أمته إلى هذا الخير العظيم الذي لا يعوض ، فإنه هو قدوة أمته وهاديها إلى كل طريق ينجيها ، وينقذها من تخبطها وضياعها ، وما أحوج أمتنا اليوم أن تقبل على هذا التوجيه ، وألا تلتفت إلى دعاوات المضلين من دعاة الغواة الذين يضلونهم بغير علم ، فتتوحد الأمة على طاعة الله حتى تتأتلف القلوب وتتوحد المشاعر ، فتكون يدا واحدة في شخصية مستقلة لا شرقية ولا غربية ، إذ في هذا الشهر كان ذلك الحدث الجلل ألا وهو تحويل القبلة من الصلاة اتجاه بيت المقدس إلى الاتجاه للكعبة التي شرفها الله بعد أن رأى الله تقلب وجه رسوله صلى الله عليه وسلم في السماء ودعائه ربه أن يجعل له قبلة يرضاها الكعبة المشرفة قبلة الأمة إلى يوم الدين .