
تولي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ نشأتها رسالة التعليم والتربية الروحية، إيمانًا منها بأن الكلمة الإلهية هي “سراج لرجلي ونور لسبيلي”، وأن غرس القيم في نفوس الأطفال والشباب منذ الصغر هو الأساس لبناء أجيال قوية في الإيمان والوطنية معًا، فكما يوصي الكتاب المقدس: “ربِّ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه”، لذلك وضعت الكنيسة التعليم في قلب خدمتها، فأسست مدارس الأحد لتكون الحاضنة الأولى للنشء، وأعدت مناهج متدرجة تناسب مختلف المراحل العمرية، كما دعمت الطلاب بالكتب والدورات وحفلات التكريم والصلوات الخاصة، لتجمع بين بناء الروح والعقل في مسيرة متكاملة نحو النمو والنضج.
مدارس الأحد.. مدرسة الإيمان الأولى
وذكر الأب دوماديوس كاهن كنيسة مارمرقس بأسوان فى تصريحات خاصة لليوم السابع أن مدارس الأحد تعد من أبرز المؤسسات التعليمية الروحية داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وقد تأسست منذ بدايات القرن العشرين لتكون بمثابة “مدرسة موازية” تُعنى بالجانب الديني والتربوي للأطفال والشباب. تبدأ الخدمة من الطفولة المبكرة، حيث تُقدَّم للطفل مبادئ بسيطة في الإيمان المسيحي من خلال قصص مبسطة وأناشيد روحية وصور ملونة، في أجواء تشجع على الانتماء والفرح.
ومع انتقال الطفل إلى المراحل الأعلى، تتحول الخدمة إلى منظومة تعليمية متكاملة، تغطي المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، بما يواكب احتياجات كل فئة عمرية.
وتركز هذه المناهج على ترسيخ القيم المسيحية، وتعليم العقيدة الأرثوذكسية، ومواجهة التحديات الفكرية والثقافية التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية.
مناهج تعليمية متدرجة للابتدائي والإعدادي والثانوي
وتقوم لجان متخصصة داخل الكنيسة بإعداد المناهج التعليمية الخاصة بمدارس الأحد.
في المرحلة الابتدائية: تُبسط القصص الكتابية وتُعرض بأسلوب قصصي مشوق، يُضاف إليه أنشطة يدوية ورسومات تساعد الطفل على الفهم.
في المرحلة الإعدادية: تُطرح موضوعات أكثر عمقًا مثل الصداقة المسيحية، إدارة الوقت، وكيفية مواجهة الضغوط.
في المرحلة الثانوية: تُقدَّم موضوعات فكرية وروحية، مثل الهوية القبطية، والرد على التساؤلات العقائدية، وتوضيح علاقة الإيمان بالحياة العملية والجامعية.
بهذا الشكل، تصنع الكنيسة مسارًا متدرجًا ومتوازنًا يضمن تنشئة روحية متكاملة.
الكتب والمراجع.. أدوات للتعليم والتربية
وتهتم الكنيسة بطباعة وتوزيع كتب ومراجع خاصة بمدارس الأحد. هذه الكتب لا تقتصر على المادة التعليمية فقط، بل تشمل كتيبات للأنشطة، وكتب تفاعلية للأطفال تحتوي على صور وألعاب تعليمية، ومذكرات للشباب تتناول قضايا فكرية معاصرة. كما تحرص الكنيسة على تحديث هذه الإصدارات باستمرار، بحيث تعكس تطورات العصر، دون التفريط في الثوابت الإيمانية.
وفي كثير من الكنائس، وُضعت مكتبات صغيرة داخل الفصول أو صالات الأنشطة، لتشجيع الأطفال والشباب على القراءة الحرة، وغرس عادة الاطلاع منذ الصغر.
كورسات بأسعار رمزية لخدمة المجتمع
جانب آخر من اهتمام الكنيسة بالتعليم يتمثل في تقديم كورسات ودورات بأسعار رمزية، تستهدف الشباب خاصة في المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية، هذه الكورسات تشمل:
دروس تقوية في المواد الدراسية الأساسية، لمساعدة الطلاب على التفوق.
كورسات لغات أجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية، لتعزيز مهاراتهم المستقبلية.
دورات في الحاسب الآلي، بما يلبي متطلبات سوق العمل.
تنمية بشرية ومهارات حياتية مثل التواصل الفعال، إدارة الوقت، والتخطيط للمستقبل.
بهذا، لا تقتصر الكنيسة على الجانب الروحي فقط، بل تساهم في بناء شخصية متكاملة، قادرة على النجاح في التعليم والعمل.
حفلات تكريم المتفوقين.. تعزيز روح النجاح
وتقيم الكنائس حفلات سنوية لتكريم الطلاب المتفوقين في مختلف المراحل التعليمية. وتتحول هذه الاحتفالات إلى مناسبات اجتماعية وروحية مهمة، يحضرها الآباء الكهنة وأولياء الأمور، حيث يتم توزيع شهادات تقدير وجوائز رمزية، مع كلمات تشجيعية تحفز الطلاب على الاستمرار في التفوق.
وتتخلل هذه الحفلات فقرات ترنيم وعروض قصيرة يقدمها الأطفال والشباب، لتكون مناسبة جامعة بين الفرح الروحي والاحتفاء بالنجاح الدراسي.
قداسات وصلوات خاصة قبل الامتحانات
ومن أبرز المظاهر التي تعكس اهتمام الكنيسة بالطلاب، إقامة صلوات وقداسات خاصة قبل مواسم الامتحانات، ففي هذه الصلوات، يجتمع الطلاب مع أسرهم أمام المذبح، ليطلبوا معًا معونة الله، ويتلقوا بركة من الكاهن. هذه الصلوات تمنح الطلاب دعمًا نفسيًا وروحيًا كبيرًا، وتخفف من توتر الامتحانات، وتغرس فيهم روح الاتكال على الله بجانب الاجتهاد الشخصي.
التكامل بين الروح والتعليم.. فلسفة كنسية واضحة
ويأتي اهتمام الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالتعليم من إيمانها العميق بأن التربية الحقيقية لا تكتمل إلا بالجمع بين الروح والعلم. فالطفل الذي يتلقى تعليمًا روحيًا سليمًا إلى جانب دعمه الأكاديمي، يصبح أكثر توازنًا وقدرة على مواجهة تحديات الحياة.
ولهذا، فإن الكنيسة لا تنظر إلى مدارس الأحد أو الكورسات أو حفلات التكريم باعتبارها أنشطة جانبية، بل كجزء من رسالة متكاملة تسعى لتنشئة جيل جديد واعٍ بإيمانه، ناجح في دراسته، ومتماسك في شخصيته.
دعم الأسرة في مسيرة التعليم
وإلى جانب كل ما تقدمه من برامج، تشجع الكنيسة الأسر على أن تكون شريكًا أساسيًا في مسيرة التعليم، من خلال اللقاءات الأسرية والإرشادات التربوية التي يقدمها الكهنة والخدام. وهذا التكامل بين البيت والكنيسة يمنح الطفل بيئة آمنة وداعمة، تساهم في نموه الروحي والعقلي معًا.
رسالة ممتدة عبر الأجيال
وعلى مدى أكثر من قرن، أثبتت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن رعايتها للأطفال والشباب ليست مجرد دور ثانوي، بل هي في صميم رسالتها الروحية والاجتماعية.
ومع استمرار تطوير المناهج، وإطلاق مبادرات تعليمية ودورات جديدة، يبقى الهدف واحدًا: إعداد جيل قوي بالإيمان، ناجح في التعليم، قادر على خدمة الكنيسة والمجتمع.